في دراسة لإحدى الصحف الأميركية لمعرفة أهمية التصوّر المسبق عند أنماط تفكير البشر، قامت بإيقاف عازف على الكمان في إحدى محطات المترو في مدينة بوسطن ساعة الذروة الصباحية، ليعزف أشهر مقاطع الموسيقي المشهور باخ...
خلال فترة 45 دقيقة مرّ على هذا العازف نحو 1100 شخص، ولم يتوقف ليسمع له سوى ستة أشخاص، وهناك 20 شخصاً قدموا له المال البسيط، الذي يُقدم عادة لهؤلاء العازفين في مثل هذه الأماكن، حتى لو لم يقفوا ليسمعوا له، هناك ثلاثة أو خمسة أطفال توقفوا ليسمعوا لكن ذويهم أرغموهم على المضي قدماً لاستكمال أعمال اليوم. في نهاية المطاف تحصل هذا الرجل على 32 دولاراً بعد عزف استمر أقل من ساعة بقليل، حتى أنه عندما أنهى عزفه لم يصفق له أحد ولم ينتبه له أحد!
حسب دراسة الصحيفة، فأن أحداً ما لم ينتبه أن هذا الرجل الذي كان يعزف هو عازف الكمان الأشهر جوشوا بيل، وأنه عزف أجمل وأروع المقطوعات المعقدة، وأنه كان يحمل كماناً قيمته تتجاوز 3 ملايين دولار. وكان هذا العازف ذاته قد أقام حفلة قبل أيام في أحد مسارح بوسطن وكانت تذكرة الدخول مئة دولار في متوسطها!
كانت الدراسة - التي هدفت إليها الصحيفة - تبحث عن مدى إدراكنا للجمال في جو غير مناسب أو ساعة غير مناسبة؟ وهل نتعرف على الموهبة في سياق غير متوقع؟ هل نقف عادة لنقدر الجمال؟
كانت هذه هي ملخص تلك التجربة، وهذه هي الأسئلة التي أرادت البحث عن جوابها عند عموم البشر.
أعتقد أن مسألة «التصور المسبق» لدى البشر هو الذي يحدد دائماً كيفية التفاعل مع الأفكار أو الأشخاص أو المعتقدات أو حتى العلوم الجديدة. نحن البشر غالباً ما نكون أسرى هذه التصورات المسبقة، يكون لدينا تصوّر مسبق عن الأشياء أو قد نبني هذه التصورات بمجرد أن نسمع أو نقرأ أو نرى أي شيء جديد، وهذا التصور المسبق هو الذي يتحكم بردة فعلنا أو بطريقة تفاعلنا مع ما نراه أو نسمعه أو نقرأه.
أحد أهم صفات العقل البشري أنه يفهم الأشياء كما يريد هو لا كما تكون هذه الأشياء! أو بالأدق... يفهمها كما بنى صاحبه أفكاره واحتفظ بها في داخله بغض النظر عن حقيقة هذه الأشياء.
المعتقدات... المذاهب... الأفكار الجديدة... العلوم وحتى نقاشاتنا السياسية غالباً ما نكون بعيدين فيها عن حقيقة الأشياء أياً كانت، ونحن في العموم الأغلب نبني آراءنا حول هذه الأشياء على تصوراتنا المسبقة عنها أو هوانا الذي نميل إليه، وربما أحيانا كثيرة نخلط بين أمانينا وآرائنا فنطرح الآراء التي نحلل فيها واقعة ما ونحن إنما نتكلم عن أمانينا تجاهها لا عنها هي كما وقعت!
تجربة الصحيفة أثبتت أننا ربما نعجب بعازف تافه لمجرد أن الحفلة تقام على مسرح فخم والحضور من «علية القوم»، وربما لا ينتبه أحد لعازف مبدع لمجرد أنه لم يستكمل «المكياج البشري»! تقريبا كل أمورنا تسير في الاتجاه نفسه!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق